دلالة قوله تعالى: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا﴾ [النساء: ٨٢] على حجيَّة القرآن، والردِّ على الطاعنين.

تتناول هذه المقالة تفسير الآية 82 من سورة النساء وتحليلها من جوانب متعددة

بقلم: أ.د. محمد بن عبد العزيز العواجي

4/2/20251 دقيقة قراءة

مقدمة

الحمد لله الذي أنزل القرآن هدى للناس، وجعله نورًا يستضاء به في دروب الحياة، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي كان خلقه القرآن، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

إن التدبّر في آيات القرآن الكريم هو المفتاح لفهم مقاصده العظمى، وهو السبيل إلى إدراك دلالاته العميقة، واستنباط هداياته الربانية. ومن أعظم الآيات التي تحث على التدبّر قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ النساء: 82.

تتناول هذه المقالة تفسير هذه الآية وتحليلها من جوانب متعددة، حيث تبدأ ببيان معناها الإجمالي، ثم تتناول مفهوم التدبّر وأهميته، وتوضح مناسبة الآية وسياقها. كما تسلط الضوء على الأسلوب اللغوي المستخدم في الآية، مثل دلالة الاستفهام في "أفلا" وصيغة الفعل "يتدبرون"، مع الوقوف عند تقدير جواب "لو" ومعنى الاختلاف في الآية، وهل يشمل تعدد المعاني أو يقتصر على التناقض.

وتمضي المقالة لبحث أسباب الاختلاف بين البشر، والتحدي القرآني المتمثل في خلوّه من التناقض، مع بيان أثر الاجتماع على التدبر، ودلالة ذلك من خلال الأسلوب القرآني. كما تُبرز الغاية العظمى من التدبّر، وهي الوصول إلى الطمأنينة القلبية والإيمان الجازم.

ثم تنتقل المقالة إلى النتائج المترتبة على التدبّر، وعواقب الإعراض عنه، مع استعراض الدلالات العامة المستخلصة من الآية، وأثر النظر الكلي في فهمها، وإثبات حجية القرآن في الرد على الطاعنين. وفي الختام، تقدم نموذجًا تطبيقيًا لكيفية الرد على الشبهات من خلال التدبّر، وتوصيات لتعزيز هذه المنهجية في البحث والتفسير.

فالقرآن الكريم كتاب هداية، لا يقتصر على التلاوة، بل يستوجب التعمّق والتأمل، ليكون منهجًا يسير عليه المؤمن، ومرجعًا يعصمه من الزيغ والضلال.

شملت المقالة النِّقاط التالية:

· المعنى الإجمالي للآية.

معنى التدبُّر.

المناسبة في الآية.

· تحليل الآية:

أسلوب الآية (أفلا)، (يتدبرون).

تقدير جواب (لو).

معنى الاختلاف (التناقض)، (هل تعدد المعاني من الاختلاف).

أسباب الاختلاف.

أسلوب البشر (المنفي).

أثر الاجتماع للتدبر (من دلالة الأسلوب).

التحدي بالقرآن.

غاية التدبُّر الطُّمأنينة.

مفهوم المخالفة.

نتائج التدبُّر.

عواقب ترك التدبُّر.

· النتيجة:

دلالة العموم.

أثر النظر الكلي.

إثبات الحجيَّة.

الرد على الطاعنين.

· النموذج والتوصية:

نموذج للرد من خلال التدبُّر.


بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: ﴿أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلقُرءَانَ وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَیرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ ٱختِلَافا كَثِیرا﴾ [النساء: ٨٢].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في المعنى الإجمالي للآية: «يقول تعالى آمرًا عباده بتدبُّر القرآن، وناهيًا لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهُّم معانيه المُحْكمة، وألفاظه البليغة، ومخبرًا لهم أنه لا اختلاف فيه، ولا اضطراب، ولا تضادَّ، ولا تعارض؛ لأنَّه تنزيل من حكيمٍ حميدٍ، فهو حقٌّ من حقٍّ؛ ولهذا قال تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها﴾ [محمد: ٢٤]، ثم قال: ﴿ولو كان من عند غير الله﴾، أي: لو كان مُفْتعلًا مُخْتلقًا، كما يقوله مَنْ يقوله من جَهَلة المشركين والمنافقين في بواطنهم ﴿لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾، أي: اضطرابًا وتضادًّا كثيرًا، أي: وهذا سالمٌ من الاختلاف، فهو من عند الله، كما قال تعالى مُخْبرًا عن الراسخين في العلم حيث قالوا: ﴿آمنا به كل من عند ربنا﴾ [آل عمران:٧]، أي: محكمُهُ ومتشابـهُهُ حقٌّ؛ فلهذا ردُّوا المتشابه إلى المُحْكم فاهتدوا، والذين في قلوبهم زيغٌ، ردُّوا المُحْكم إلى المتشابه فغَوَوا؛ ولهذا مدح تعالى الراسخين، وذمَّ الزائغين»([1]).

معنى التدبُّر: قال ابن عبَّاس رضى الله عنهما: «أي: أفلا يتفكرون، فيَرَوْن تصديق بعضه لبعضٍ، وما فيه من الوعظ والذِّكر والأمر والنهي، وأن أحدًا من الخَلْق لا يقدر عليه ﴿ولو كان من عند غير الله﴾، كما يزعمون ﴿لوجدوا فيه اختلافاً﴾، أي: تفاوتًا وتناقضًا ﴿كثيرًا﴾»([2]).

المناسبة في الآية: لعلَّ في الحديث عن تدبُّر القرآن عَقِبَ وَصْفِ أصعب الأمراض وهو النِّفاق؛ تنبيهًا على أنَّ مَنْ كان النفاق داءَه، كان التدبُّر دواءَه، وأنَّ من طبيعة الناس: المسارعة لإفشاء الأسرار وإذاعتها، والإرجاف بها، والواجب ردُّها للرسول في حياته، وإلى أولي الأمر بعد وفاته؛ لأنَّهم من أهدأ الناس في التعامل مع الأحداث، فمن فضل الله على الناس أنْ جعل بينهم كتابه تعالى، ورسولَ الله الذي يُرْشدهم لما فيه من صواب، وأهلَ العلم والاستنباط الذين يتدبَّرونه ويستنبطونه، فيُفصِّلون آياته، ويشرحونها، ويستنبطون منها.

تحليل الآية:

الحثُّ على تدبُّر القرآن، والدعوة إلى ذلك في قوله: (أفلا)، فهو استفهامٌ معناه الإنكار، أي: أفلا يتأملون ما نزل عليك من الوحي، ولا يعرضون عنه، فإنَّ في تدبُّره يظهر برهانه، ويسطع نوره، ولا يظهر ذلك لمن أعرض عنه، ولم يتأمَّله.

ومن يتأمل في دلالة هذا الاستفهام الإنكاري، يلحظ مجيئه مصحوبًا أيضًا بتوبيخهم على عدم التدبُّر، والتعجب من حالهم في استمرارهم على نفاقهم مع توافر أسباب الهداية لهم، وهو القرآن الذي يُردِّده الرسول صلى الله عليه وسلم على مسامعهم، وبين ظهرانيهم ليل نهار.

ومجيء لفظ (يتدبَّرون) بفعل الـمُضارع؛ يدلُّ على الحدوث والتفاعل، وتكرار التدبُّر وتجدده، والحثِّ على ذلك.

تقدير جواب (لو): «ووُصِفَ الاختلافُ بالكثير في الطَّرفِ الممتنعِ وقوعه بمدلول (لو)؛ لِيَعلَم المتدبِّرُ أنَّ انتفاء الاختلافِ من أصله أكبر دليلٍ على أنَّه من عند اللَّه، وهذا القيد غير مُعتبرٍ في الطَّرف المقابل لجواب (لو)، فلا يُقَدَّرُ ذلك الطَّرف مُقَيَّدًا بقوله: (كثيرًا)، بل يُقَدَّرُ هكذا: لَكنَّه من عند اللَّه، فلا اختلافَ فيهِ أصلًا»([3]).

معنى الاختلاف: قال ابن عاشور رحمه الله: «الاختلافُ يظهر أنَّه أُرِيدَ به اختلاف بعضه مع بعضٍ، أي: اضطرابه.

ويحتمل أنَّه اختلافه مع أحوالهم، أي: لَوَجدوا فيه اختلافًا بين ما يذكره من أحوالهم، وبين الواقع، فَلْيكتفُوا بذلك في العلم بأنَّه من عند الله؛ إذ كان يصف ما في قلوبهم وَصْفَ المُطَّلع على الغيوب، وهذا استدلالٌ وجيزٌ وعجيبٌ قُصِدَ منه قَطْعُ معذرتهم في استمرار كفرهم»([4]).

والمقصود بالاختلاف هنا: أنه يناقض بعضه بعضًا، ويكذِّب بعضه بعضًا؛ ولذلك وَصَف الله تعالى القرآن وصفًا عامًّا بالتشابه ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا﴾ [سورة الزمر:23]، بمعنى أنه يُشْبه بعضه بعضًا في الحسن والفصاحة والبلاغة، ولا تناقض فيه، ولا تعارض ألبتَّة، فهو في غاية الحسن والإتقان، ووصفه بالإحكام وصفًا عامًّا، فقال: ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [سورة هود:1] بمعنى أنكَ لا تجد فيها خللًا، ولا ما ينتقص، لا في الألفاظ، ولا في المعاني، ولا تجد بين المعاني معارضة.

وليس المقصود من الاختلاف في أن يكون في تعدُّد المعاني، فالقرآن كما قال العلماء: «حمَّال ذو وجوه»، بمعنى أن الآية تحتمل معانيَ متعددة كما هو معلومٌ، وليس اختلاف العلماء في تفسير الآيات هو المنفي في الآية، وإنما المراد أي: لو كان من عند غير الله، لوجدوه مختلفًا في نفسه، فيضرب بعضه بعضًا، ويناقض بعضه بعضًا، وهذا غير موجودٍ في كلام الله، «القرآن لا يشتمل على كلامٍ يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين، من كلامٍ يناقض بعضه بعضًا، أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة، أو يأمر بارتكاب الشر والفساد، أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أنَّ ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبَّر فيه المتدبر، وجده مفيدًا اليقين بأنه من عند الله»([5]).

أسباب الاختلاف:

أخرج ابن جرير: «عن ابن زيدٍ قال: إنَّ القرآن لا يكذب بعضه بعضًا، ولا ينقض بعضه بعضًا، ما جهل الناس من أمره، فإنَّما هو من تقصيرِ عقولِهِم وجهالتهم؛ وقرأ: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾، قال: فحقٌّ على المؤمن أن يقول: كلٌّ من عند الله، يؤمن بالمتشابه، ولا يضرب بعضه ببعض إذا جهل أمرًا ولم يعرفه، أن يقول: الذي قال الله حقٌّ، ويعرف أنَّ الله لم يَقُلْ قولًا وينقضه، ينبغي أن يؤمن بحقيقة ما جاء من الله»([6]).

قال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى: «القرآن لا يمكن أن يتناقض أبدًا، وإذا رأيتَ آيةً ظاهرها يناقض الآية الأخرى، فاعلم أنَّ ذلك إمَّا من قصور علمكَ، بأن تكون الآية هذه ناسخةً للآية وأنت لا تعلم، أو من سوء فهمكَ بأن تكون كلتا الآيتين محكمة، ولكن لم تفهم الجمع بينهما»([7]).

أما عند الناس: فنجد في كلامهم الكثير من المعارضات والمناقضات والتباين والتفاوت؛ سواء في الأسلوب وغيره، ونجد الفرق الواضح بين أسلوب الإنسان حينما يكتب أول ما يكتب، وبين ما يكتبه في آخر حياته!

أمَّا النبي ﷺ، فقد نزل عليه القرآن في ثلاثٍ وعشرين سنةً، ومن أول سورة نزلت إلى آخر سورة، كلها في غاية الفصاحة والبلاغة والبيان، وفي أعلى مستوى الإتقان، لا فرق بين أوله وآخره، كتاب محكم من عزيز حميد.

أثر الاجتماع للتدبُّر: فمن دلالة أسلوب الآية بذكر الجمع أنَّ التدبُّر للقرآن يحصل بالجلوس الجماعي، لإحسان عرضه وتلاوته مع عُمْق تدبُّره، ومطالعة آياته، والتفكُّر فيها وتدبُّرها.

التحدي بالقرآن: ففي الآية معنًى مُعْجز للخَلْق جميعًا، وهو: التحدِّي لكل العقول البشريَّة التي تتدبَّره بأنَّها لن تجد فيه من تناقضٍ أو اضطرابٍ أو الاختلاف الكثير.

غاية التدبُّر: الطُّمأنينة: كما قال تعالى: ﴿ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا وَتَطمَىِٕنُّ قُلُوبُهُم بِذِكرِ ٱللَّهِ أَلَا بِذِكرِ ٱللَّهِ تَطمَىِٕنُّ ٱلقُلُوبُ﴾ [الرعد: ٢٨].

قال السعدي رحمه الله: «معنى طُمَأنينة القلوب بذِكر الله: أنها حين تعرف معاني القرآن وأحكامه، تطمئنُّ لها، فإنها تدلُّ على الحق المبين المؤيَّد بالأدلة والبراهين، وبذلك تطمئنُّ القلوب، فإنها لا تطمئن القلوب إلا باليقين والعلم، وذلك في كتاب الله، مضمونٌ على أتم الوجوه وأكملها، وأمَّا ما سواه من الكتب التي لا ترجع إليه، فلا تطمئن بها، بل لا تزال قلقةً من تعارض الأدلة، وتضاد الأحكام، ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾، وهذا إنما يعرفه مَن خَبَر كتاب الله وتدبَّره، وتدبَّر غيره من أنواع العلوم، فإنه يجد بينها وبينه فرقًا عظيمًا»([8]).

ومفهوم المخالفة: أنَّ أيَّ كلامٍ يقوله الناس غير كلام الله، فسيجدون فيه اختلافًا كثيرًا بيِّنًا، ولا يخلو كتابٌ بشريٌّ من عيبٍ ونقصٍ، وكُتُبُ النقد بذلك شاهدةٌ، فأين هي من وحي الله الذي لا تنقضي عجائبُ إعجازه وإحكامه؟! أخرج الطبري عن قتادة: «قول الله لا يختلف، وهو حقٌّ ليس فيه باطل، وإنَّ قول الناس يختلف»([9]).

نتائج التدبُّر:

· تدبُّر كتاب الله يصلُ بالعبد إلى درجة اليقين بأنه كلام الله، فإنك ترى الحِكَم والقَصَص والأخبارَ تُعَاد في القرآن وتتكرَّر، وهي كلُّها متوافقة، لا ينقضُ بعضُها بعضًا.

· ويخبر تعالى أن القرآن سالمٌ من الاختلاف والاضطراب، والتضاد والتعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حقٌّ من حقٍّ.

· وأنَّ أهل التدبّر للقرآن هم أهل العلم به.

· وأنَّ القدرة على الاستنباط لا تتحصَّل إلا بتدبُّر القرآن، فآية الاستنباط أتت بعد آية التدبُّر.

· وأنَّ فضل الله تعالى يكتنف مَنْ أحسَنَ التدبُّر لمعاني القرآن، واستطاع على القيام بالاستنباط.

· وأنَّ الله تعالى وجَّه الأمر بالتدبُّر لعموم الناس، وخصَّ الاستنباط به أهل العلم.

· والأمر بالتدبُّر يدل على أن القرآن معلوم المعنى.

عواقب ترك التدبُّر: قال القاسمي رحمه الله: «ما أعلم أحدًا من الخارجين عن الكتاب والسُّنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة إلا ولا بد أن يتناقض»([10])، فَمَنْ لم يُحسن التدبُّر والاستنباط، فإنَّه يخشى عليه اتباع الشيطان.

والنتيجة: دلالة الآية على العموم: فالحثُّ على التدبُّر جاء بصيغة الجمع (يتدبَّرون)، وليس مقتصرًا على أحدٍ دون أحدٍ، فالتدبُّر ينبغي لجميع الناس، بشتَّى تخصُّصاتهم واهتماماتهم، فقد جاءت الآية بعد الحديث عن المنافقين، فهي دعوةٌ لغير المسلمين بتدبُّر القرآن، ومثلها قوله تعالى: ﴿أفلم يدبروا القول﴾، فهو دعوة للناس جميعًا بتدبُّر القرآن.

ظهر أثر النظر الكلِّي للعلماء لهذا المعنى بقواعدهم، والتي منها:

«اتَّفق الجميع على أنَّ الشَّريعة لا اختلاف فيها، ولا تناقض، ولو كان من عند غير الله لَوَجدوا فيه اختلافًا كثيرًا»([11]).

«القرآن من فاتحته إلى خاتمته كالكلمة الواحدة»([12]).

الشرع كله «كلفظةٍ واحدةٍ، وخبرٍ واحدٍ موصولٍ بعضه ببعضٍ، ومضافٍ بعضه إلى بعض، ومبنيٍ بعضه على بعض»([13]).

«مأخذُ الأدلَّة عند الأئمَّة الراسخين إنَّما هو على أن تُؤخَذ الشَّريعة كالصُّورة الواحدة»([14]).

‏«الإنسان لا يكون إنسانًا إلا بجملته التي سُمِّي بها إنسانًا، كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم إلا بجملتها»([15]).

إثبات الحجيَّة، والرد على الطاعنين: إنَّ تدبُّر القرآن الكريم يثبت حجيَّته بطرق متعددة، وممَّا يُبرز حجيَّة القرآن:

أنَّ القرآن تحدَّى العرب في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأن يأتوا بمثله، ولم يستطع أحدٌ أن يفعل ذلك، وهذا بحدِّ ذاته دليل على أنه كلام الله، وهو دليلٌ كافٍ، ومع ذلك ظهر الإعجاز بأنواعه:

فالمتدبر في مجال التراكيب اللغوية للقرآن يظهر له فيها جمال لغة القرآن وبلاغتها، وقوة البيان التي لا تضاهى.

والمتدبِّر في الأحكام القرآنية يظهر جليًّا له عدالة ومرونة التشريعات الإسلامية، والتي تتناسب مع كل زمان ومكان.

وأنَّ القرآن يُقدِّم نظامًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا متكاملًا يهدف إلى تحقيق العدل والمساواة.

والقرآن لا نظير له في القِيَمِ والأخلاق التي يدعو إليها، فالتدبُّر يُظهر مدى عمق هذه القيم، وأثرها الإيجابي على الفرد والمجتمع، وأنه يحتوي على أسس التوجُّهات التربوية والنفسية العملية التي تساعد على بناء الشخصية المسلمة.

والمتدبِّر في القرآن يجده يحتوي العديد من الحقائق والبراهين العلمية التي لم تكن معروفةً في زمن نزوله، وتمَّ اكتشافها لاحقًا، وهذا يُثْبت أن مصدر القرآن هو الله العليم، وأن ما دلَّ عليه القرآن تامُّ الاتساق مع العلم؛ كالآيات التي تتحدث عن الكون والخلق والطبيعة، فيُظْهر العلم الحديث توافقًا مع دلالة القرآن.

ويحتوي القرآن على العديد من الأخبار الغيبيَّة التي تحقَّقت بعد نزوله؛ مما يثبت أنه من عند الله، مع صدقه في التنبُّؤات المستقبلية التي قد تحقَّقت كما وردت في القرآن، ولا زالت تتحقَّق.

ويظهر للمتدبِّر التأثير الروحي والنفسي للقرآن في مجالي السَّكينة والإصلاح، فالتدبُّر في القرآن يجلب السكينة والطُّمأنينة للنفس، وهذا تأثيرٌ لا يمكن إنكاره، والقرآن يملك قدرةً على هداية الناس، وإصلاحهم، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

فتدبُّر القرآن يفتح أمام الإنسان آفاقًا واسعةً لفَهْم عظمة هذا الكتاب العظيم، وإدراك أنه لا يمكن أن يكون من صُنْع البشر، فكلَّما تعمَّق الإنسان في تدبُّر القرآن، زاد يقينه بحجيَّته وأحقيَّته في أن يكون هدًى ونورًا للعالمين.

وثبات حُجَّته من أقوى الرد على الطاعنين:

فالتحدِّي لا يزال قائمًا حتى اليوم، وعَجْزُ البلغاء والفصحاء في زمن النبي عن مُحَاكاته دليلٌ واضح على أن القرآن ليس من قول الخَلْق، والبلاغة والفصاحة فيه تُثْبت أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون إلا من عند الله.

والحقائق العلمية في العصر الحديث تُثْبت أن مصدر القرآن هو الله العليم الخبير، وتناسق دلالاته مع العلم المكتشف بأنواعه يردُّ على الطاعنين الذين يدَّعون أن القرآن يحتوي على معلومات غير دقيقة، والتشريعات القرآنية ظهرت عدالتها ومرونتها؛ مما يُثْبت أنها من عند الله، وليست من صُنْع البشر، وما شمله نظامه الاجتماعي المتكامل: القرآن يقدم نظامًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا يهدف إلى تحقيق العدل والمساواة؛ مـمَّا يثبت أن التشريعات القرآنية ليست مجرد قوانين بشرية، بل هي وحي إلهي، والتدبُّر في دلالته الأخلاقية والتربوية يُظْهر عُمْق تلك القيم، وأثرها الإيجابي على الفرد والمجتمع؛ مـمَّا يردُّ على الطاعنين الذين يدَّعون أن القرآن يدعو إلى العنف أو الظلم، والنظرُ في التوجيهات التربوية والنفسية والعملية مما يثبت أن هذا الكتاب ليس مجرد نصٍّ مقدس، بل هو منهج حياة. وفي الأخبار الغيبيَّة والتنبؤات المستقبلية ما يردُّ على الطاعنين الذين يُشكِّكون في صحة القرآن، بالإضافة لأمرٍ ظاهرٍ للعيان، فضلًا عن الدراسات عن التأثير الروحي والنفسي بالسكينة والطُّمأنينة للنفس، وهذا تأثيرٌ لا يمكن إنكاره، ويثبت أنَّ هذا الكتاب له قوة روحية عظيمة، والهداية والإصلاح؛ فللقرآن قدرةٌ على هداية الناس وإصلاحهم، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وهذا يُفْسد قول الطاعنين الذين يدَّعون أن القرآن لا يصلح لكل زمانٍ ومكانٍ.

فكلَّما تعمَّق الإنسان في تدبُّر القرآن، زاد يقينه بأن هذا الكتاب هو وحيٌ من الله، وليس للخَلْق إلَّا التسليم لثبات حُجيَّة القرآن، وكشف زَيْغ كل الشبهات والطعون.

وعلى سبيل المثال: هناك شُبْهة تدَّعي أن النبي محمدًا ﷺ تعلَّم القرآن من علماء أهل الكتاب! والرد على هذه الشبهة يكون من خلال تدبُّر القرآن الكريم؛ إذ إنَّ القرآن يحتوي على معلومات وتفاصيل لم تكن معروفةً لدى علماء أهل الكتاب في ذلك الوقت؛ ممَّا يثبت أن مصدره إلهي، وليس بشريًّا.

كذلك يمكن الرد على الادِّعاءات حول معارضة القرآن للحقائق التاريخية من خلال تحليل الآيات القرآنية، ومقارنتها بالحقائق التاريخيَّة المثبتة، وهذا المجال من التدبُّر يُظْهر التوافق الكبير بين القرآن والتاريخ؛ ممَّا يشهد لمصداقية القرآن.

والخلاصة: أنَّ القرآن يتحدَّى الطاعنين أن يجدوا فيه تناقضات، ومن خلال التدبُّر يتَّضح أنه خالٍ من أي تناقضات؛ مـمَّا يدلُّ على كماله وإعجازه، وأن تدبُّر القرآن وسيلة فعَّالة للدفاع عن الإسلام، والرد على الشبهات، والكشف عن حقائقه وإعجازه.

ولذا، أُوصِي الباحثين بإثراء هذا الباب بالبحوث والدراسات التأصيلية، والنقدية، والمقارنة، والموضوعية.

وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

أ.د. محمد بن عبد العزيز العواجي

رئيس تحرير مجلة تدبر

أستاذ التفسير وعلوم القرآن بالمدينة المنورة

الهوامش للمقالة:
([1]) «تفسير القرآن العظيم»، لابن كثير (2/364، 365).

([2]) «الكشف والبيان»، للثعلبي (3/350)، وعزاه لابن عباس، و«البسيط»، للواحدي (6/632)، وعزاه له من طريق الكلبي، وانظر: «تنوير المقباس بهامش المصحف» (ص91)، و«معالم التنزيل»، للبغوي (١/٥٦٦)، و«زاد المسير»، لابن الجوزي (2/144)، «فتح البيان»، لصديق خان (3/186).

([3]) «التحرير والتنوير» (5/138).

([4]) المصدر السابق.

([5]) «التحرير والتنوير» (1/223، 224).

([6]) «جامع البيان» (8/567) (9988)، ت: شاكر.

([7]) «تفسير سورة الزمر» (ص16).

([8]) «تيسير الكريم الرحمن» (ص418).

([9]) «جامع البيان» (8/567) (9988)، ت: شاكر.

([10]) «محاسن التأويل» (٢/٢٧٢).

([11]) «الموافقات»، للشاطبي (3/188).

([12]) «التبصرة في أصول الفقه» (ص214).

([13]) «الإحكام في أصول الأحكام»، لابن حزم (2/35).

([14]) «الاعتصام»، للشاطبي (1/311).

([15]) المصدر السابق.

مقالة بعنوان:

دلالة قوله تعالى: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا﴾ [النساء: ٨٢] على حجيَّة القرآن، والردِّ على الطاعنين.

بقلم:

أ.د. محمد بن عبد العزيز العواجي

رئيس تحرير مجلة تدبر

أستاذ التفسير وعلوم القرآن بالمدينة المنورة